فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي إن يوسف من عباد اللّه الذين اصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته وصفاهم من الشوائب، فلا يستطيع الشيطان إغواءهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ} [ص: 47].
وحدثت المفاجأة الغريبة المحرجة بقدوم زوجها، وهما يتسابقان إلى الباب، فقال تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي وتسابقا إلى الباب، بناء على حذف الجارّ وإيصال الفعل كقوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أو بناء على تضمين اسْتَبَقَا معنى: ابتدرا، والتسابق مختلف الغرض، فيوسف فرّ منها مسرعا يريد الباب ليخرج، وهي أسرعت وراءه لتمنعه الخروج. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي لحقته في أثناء هربه، فأمسكت بقميصه من الخلف، فقطعته.
{وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ} أي وحينئذ وجدا سيدها وهو زوجها عند الباب، فحاولت بمكرها وكيدها التنصل من جرمها وإلصاق التهمة بيوسف، فقالت: ما جزاء من أراد بأهلك فاحشة إلا أن يحبس، أو عذاب مؤلم موجع، فيضرب ضربا شديدا. وكانت نساء مصر تلقب الزوج بالسيد، ولم يقل: سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعي.
وهنا ذكر الرازي علامات كثيرة دالة على أن يوسف عليه السّلام هو الصادق وهي:
1- إن يوسف عليه السّلام كان في اعتبارهم عبدا، والعبد لا يتسلط على مولاه إلى هذا الحد.
2- شوهد يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج، وطالب المرأة لا يفعل ذلك.
3- زيّنت المرأة نفسها على أكمل الوجوه، خلافا لما كان عليه حال يوسف.
4- لم تكن سيرة يوسف في المدة الطويلة دالة على حالة تناسب، هذا الفعل المنكر.
5- لم تصرح المرأة بنسبته إلى الفاحشة، بل أجملت كلامها، وأما يوسف فصرح بالأمر.
6- إن زوج المرأة كان عاجزا، فطلب الشهوة منها أولى.
لكل هذا لم تطلب عقوبة شديدة، وإنما أرادت أن يحبس يوما أو أقل، على سبيل التخفيف والتخويف لأن حبها الشديد ليوسف حملها على أن تشفق عليه، ولكنها من جانب آخر استحيت أن تقول: إن يوسف قصدني بالسوء، وأرادت تصيّد عذر ما، وحماية سمعتها وكرامتها أمام زوجها.
ذكر بعضهم: ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه اللّه، فألقى عليه هيبة النبوة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه.
ثم جاء دور براءة يوسف: قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي.. قال يوسف بارّا صادقا مدافعا عن نفسه حينما اتهمته بقصد السوء: هي التي راودته عن نفسه، فامتنع منها، وأنها تبعته وجذبته حتى قدت قميصه، ولم تترك حيلة إلا لجأت إليها لمواقعتها.
{وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} وللعلماء قولان في هذا الشاهد، هل هو صغير أو كبير؟ وهل هو إنسان أو القميص؟، فصار في تعيين هذا الشاهد ثلاثة أقوال:
الأول: أنه كان ابن عم لها كبير، وكان رجلا حكيما عاقلا حصيف الرأي، فقال: إن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص، ورأوا الشق من خلفه، قال ابن عمها: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي من عملكن، ثم قال ليوسف: أعرض عن هذا واكتمه، وقال لها: استغفري لذنبك. وهذا قول طائفة كبيرة من المفسرين.
والثاني: وهو قول ابن عباس وجماعة: أن ذلك الشاهد كان صبيا أنطقه اللّه تعالى في المهد.
روى ابن جرير حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم».
والثالث: أن ذلك الشاهد هو القميص. قال الرازي: وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا، ولا ينسب إلى الأهل.
ولما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به وظهر للقوم براءة يوسف عن هذا المنكر، قال العزيز أو الشاهد: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} إن هذا الاتهام من جملة كيدكن {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي إن مكر المرأة وكيدها شديد التأثير في النفوس، غريب لا يفطن له الرجال، ولا قبل لهم به، ولا لحيلها وتدبيرها.
ويا يوسف أعرض عن ذكر هذه الواقعة واكتم خبرها عن الناس، ويا أيتها المرأة اطلبي المغفرة لذنبك، إنك كنت من زمرة الخاطئين أي المذنبين. وقوله هذا لأنه لم يكن غيورا، فكان ساكنا، أو لأن اللّه تعالى سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف، حتى كفي ما قد يبادر به وعفا عنها.

.فقه الحياة أو الأحكام:

موضوع الآيات بيان محنة يوسف، وإظهار براءته، واتهام زوجة العزيز، وتكون الآيات دالة على ما يأتي:
1- اتهام امرأة العزيز بمراودة يوسف عن نفسه، وذكر في الآية ثلاثة تصرفات تؤكد تهمتها وهي: المراودة، وإغلاق الأبواب، ودعوتها يوسف لنفسها قائلة: هَيْتَ لَكَ وهي لغة أهل حوران جنوب سوريا، أي هلمّ أقبل وتعال.
2- دفاع يوسف عن نفسه، مستخدما في الجواب ثلاثة أشياء: {مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، استعاذ باللّه واستجار به مما دعته إليه، وتذكر فضل سيده عليه إذ آواه وأحسن مثواه ومقامه وتعهده بالرعاية والحفظ، ونظر إلى المستقبل نظرة العاقل المتأمل الذي يصون مستقبله، وقرر أنه لا يظفر الظالمون الخائنون الذين يقابلون الإحسان بالإساءة.
3- هناك فرق واضح بين همّها به وهو المعصية من مخالطة وانتقام، وبين همّه بها وهو الفرار والنجاة منها لأن الأنبياء معصومون عن المعاصي.
وأدلة عصمة الأنبياء:
الدليل الأول- إن الزنى من منكرات الكبائر، وكذلك الخيانة من منكرات الذنوب، وأيضا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموقعة بالفضيحة التامة والعار الشديد من منكرات الذنوب، ثم إن إقدام الصبي الذي تربى في حجر إنسان على الإساءة إلى المنعم عليه من أقبح المنكرات والأعمال.
الدليل الثاني- إن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عن النبي، لقوله تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} ثم إن اللّه تعالى جعل يوسف عليه السّلام من عباده المخلصين- بفتح اللام- الذين خلصهم اللّه من الأسواء، وبكسر اللام: من الذين أخلصوا دينهم للّه تعالى، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السّلام الذين قال اللّه فيهم: {إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ} [ص: 46- 47].
الدليل الثالث- من المحال أن يصدر عن الأنبياء عليهم السلام زلة أو هفوة ثم لا يتبعونها بالتوبة والاستغفار.
الدليل الرابع- كل من كان له تعلق بتلك الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عليه السّلام من المعصية.
والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف عليه السّلام، وتلك المرأة وزوجها، والنسوة، والشهود، ورب العالمين، وإبليس، الكل شهدوا ببراءة يوسف عن الذنب والمعصية، كما تقدم سابقا.
4- قال العلماء: لما برّأت نفسها ولم تكن صادقة في حبه- لأن من شأن المحبّ إيثار المحبوب- قال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه.
5- الشاهد من أهلها: إما طفل في المهد تكلم، قال السهيلي: وهو الصحيح، للحديث المتقدم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة».
وذكر فيهم شاهد يوسف، وإما رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها.
6- في آية قدّ القميص مقبلا ومدبرا دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة لأن القميص إذا جبذ من خلف تمزّق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدّام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب.
7- إذا كان الشاهد على براءة يوسف طفلا صغيرا، فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات وإذا كان رجلا صحّ الاعتماد على الأمارة، كالعلامة في اللقطة وغيرها فقال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة، فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة، فإن السلطان ينظر في ذلك، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم.
وقال الحنفية وغيرهم: إذا اختلف الرجل والمرأة في متاع البيت: إن ما كان للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومة وأصل الاعتماد على الأمارات هذه الآية.
8- الحذر من فتنة النساء، فإن كيدهن عظيم لعظم فتنتهن، واحتيالهن في التخلص من ورطتهن، ذكر مقاتل عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن اللّه تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، وقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}». اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
أخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه: {وشهد شاهد...} قال: حكم حاكم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وشهد شاهد من أهلها} قال: صبي في المهد.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه: {وشهد شاهد من أهلها} قال: صبي، أنطقه الله كان في الدار.
وأخرج أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم».
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «عيسى، وصاحب يوسف، وصاحب جريج، تكلموا في المهد». وأخرج ابن أبي شيبة وابن جريج وابن المنذر وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله: {وشهد شاهد من أهلها} قال: كان صبيًا في المهد.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وشهد شاهد من أهلها} قال: كان رجلًا ذا لحية.
وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو الشيخ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وشهد شاهد من أهلها} قال: كان من خاصة الملك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {وشهد شاهد من أهلها} قال: رجل له عقل وفهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم رضي الله عنه في قوله: {وشهد شاهد من أهلها} قال: ابن عم لها كان حكيمًا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وشهد شاهد من أهلها} قال: ذكر لنا أنه رجل حكيم من أهلها. قال: القميص يقضي بينهما، إن كان قميصه قدّ إلى آخره.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ، عن عكرمة رضي الله عنه مثله.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وشهد شاهد من أهلها} قال: ليس بإنسي ولا جان، هو خلق من خلق الله. وفي لفظ قال: قميصه مشقوق من دبر، فتلك الشهادة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن الشعبي رضي الله عنه قال: كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاث آيات: حين قدّ قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيرًا، وحين جاؤوا على قميصه بدم كذب، عرف أن الذئب لو أكله خرق قميصه.
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)}
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {يوسف أعرض عن هذا} قال: عن هذا الأمر والحديث: {واستغفري لذنبك} أيتها المرأة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {يوسف أعرض عن هذا} قال: لا تذكره.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} قال: حلمًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)}
وقال ابن عطية: وقرأت فرقة {قُطَّ}. قال أبو الفضل ابن حرب: رأيت في مصحفٍ {قُطَّ مِنْ دُبُر}، أي: شُقَّ. قال يعقوب: القَطُّ في الجلدِ الصحيح والثوبِ الصحيح. وقال الشاعر:
تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ ** وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُبَاحِبِ

/ قوله: {مَا جَزَاءُ} يجوز في {ما} هذه أن تكونَ نافيةً، وأن تكونَ استفهاميةً، و{مَنْ} يجوز أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، وقوله: {إِلاَّ أَن يُسْجَنَ} خبرُ المبتدأ، ولمَّا كان {أَن يُسجن} في قوة المصدر عَطَف عليه المصدر وهو قوله: {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. و{أو} تُحْمل معانيها، وأظهرُها التنويع.